قصـص مـن يـوميـاتنا.. العنصـريـة

أخبار ومستجدّات
 
 

ضفائر شعرها المجعّد تتأرجح مع خطواتها الصغيرة المباغتة. تركض بين الأقدام، تقع على الأرض حيناً وتتأبّط بأمها حيناً آخر. لميس ذات الأعوام الأربعة من أم صومالية وأب سوداني، ولدت في لبنان، لكنها لا تحبّ المدرسة التي لم يحتمل تلامذتها بشرتها الداكنة. كان أول سؤال طرحته على والدتها بعد دخولها الروضة: «ما معنى كلمة سيريلنكية؟». 
لميس لم تكن تُنادى باسمها، لا من رفاقها فحسب، بل من بعض المعلمات أيضاً. كانت تستغرب تسميتها في المنزل «لميس» وفي المدرسة «سيريلنكية» أو «سوداء». لم تفهم السبب، إلا حين أصبحت هذه الكلمات تقترن بأفعال عدائية. «أمّك سوداء وبيّك أسود، ما عندكن بيت وما عندكن اوراق وبدي حطّك بالحبس»، قالت لها زميلتها يوماً وهي تدفعها بعنف. 
جنّ جنون والدتها، جيجي، حين سمعت هذا الكلام عن ابنتها. «الأطفال لا يكذبون، لا يؤلفون القصص من خيالهم، بل يسمعونها من الكبار»، تعتبر الأم. 
لجأت جيجي من الصومال عن عمر تسعة أعوام، بعد وفاة والديها في الحرب، وبدأت عملها في تنظيف البيوت في الثالثة عشرة من العمر. اعتادت عنصرية بعض اللبنانيين، تغضّ النظر كثيراً في يومياتها عن ألفاظ مهينة تُقذف من هنا وهناك، مثل: «عبدة» و«سيريلنكية». لكنها لا تستطيع ضبط أعصابها في جميع المواقف. «عشرة آلاف؟» يسألها أحد المارة وهو يغمزها، فتنفجر في وجهه غضباً: «أتعتقد أنني عاملة جنس؟»، فيجيبها بخبث: «طيب.. عشرة دولارات؟»، من المواقف شبه اليومية التي لم تستطع السكوت عنها.
ولم تحتمل الحوادث التي تخبرها لميس بها. في كل مرة تسألها: «كيف كانت المدرسة اليوم؟». فقرّرت الذهاب بنفسها إلى المدرسة لتستفسر عن الموضوع. المعلمات نفيْنَ الأمر. لكنّ إحداهن همست بعد خروج جيجي من مدخل المدرسة: «وحدة سيريلنكية بدّها تربّينا». أما حين سألت الطفلة التي هدّدت لميس بالسجن، من أين جاءت بكلامها هذا، فأجابت: «بابا بقول هيك». 
حكت جيجي قصتها في مناسبة «اليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري»، خلال مؤتمر صحافي نظمته أمس الأول «حركة مناهضة العنصرية في لبنان» و«المركز اللبناني لحقوق الإنسان» في مقر المركز في الدورة. لم تكن القصة فريدة، فشارك شباب وأطفال، من الهند، الفيليبين، مدغشقر، الولايات المتحدة، ودول أوروبية، قصصهم المختلفة. 
تروي هبة لـ«السفير» قصتها في لبنان، وهي فتاة من أم سورية وأب سوداني، عمرها أربع عشرة سنة. هبة لا تعرف والدها، وليس لديها أي أوراق ثبوتية. تخشى التجوال بعيداً من المدرسة. لا لفقدان الأوراق فحسب، بل لمواقف عنصرية تتعرّض لها. «خادمة»، من العبارات التي تسمعها باستمرار في الشارع. «أنا طالبة، لماذا ينادونني خادمة؟»، تسأل باستغراب. فقرّرت التجوال دائماً بلباس المدرسة، لتفادي التعامل معها كعاملة منزل. في الواقع، لا مشكلة لديها في العمل المنزلي، فأمها تعمل ليلاً نهاراً في البيوت لتعيلها وتعلّمها. لكنها ببساطة ليست عاملة منزل. 
الأمر لا ينتهي باللباس. تواجه هبة يوميّاً مواقف «مؤذية»، وفق تعبيرها. يعاكسها أحدهم: «شو يا فحمة»، فيما يحدّق آخر بوجهها الداكن بتعابيرٍ ساخرة. تشعر بذلك، ويزعجها الأمر كثيراً. في المدرسة، لديها رفاق. لكنهم يحاولون الابتعاد عنها في الشارع، كي لا يشاركوها هذه المواقف. «في المدرسة نحن رفاق، في الشارع يتبرأون مني، كالعادة»، تُعبّر بلهجةٍ لبنانية مُتقنة. 
كذلك، تشاركنا ايميه معاناتها في «نظارة الأمن العام»، في كل مرة تذهب لتجديد إقامتها: «نأتي باكراً في كل مرة، نقف في طابور طويل ننتظر دورنا بصبر، خلافاً للبنانيين الذين يخطون خطواتهم بثقة، في موازاة صف العمال ذوي البشرة الداكنة، في اتجاه رجل الأمن مباشرةً». ايميه عاملة منزل من مدغشقر مقيمة في لبنان منذ أربع عشرة سنة. عبّرت عن احترامها لرجال الأمن بشكل عام، لانضباطهم وأدائهم واجباتهم، لكنها تسأل: «إذا كان رجال الأمن لا يحترمون حقوق الناس وحرياتهم، كيف لنا أن نطيعهم؟ كيف يمكن احترامهم أصلاً؟». وتعرب عن حبّها العميق لهذا البلد الذي عملت فيه لسنوات عدة، سائلةً: «هل يمكن أن نتوقع تغييراً في لبنان، وفي سلوك اللبنانيين؟».
المسألة ليست في الألوان فحسب. قصص أشخاص من أعراق وطبقات اجتماعية وجنسيات مختلفة عكس ذلك. تانيشا طالبة هندية عمرها سبعة عشر عاماً من عائلة ميسورة مقيمة في لبنان، تحدثت عن قصة العاملة البنغلادشية التي تعمل في منزلهم، لم تتكلم عن نفسها.
بدورها لين، وهي طفلة عمرها اثنا عشر عاماً، من أم لبنانية وأب أميركي، تتحدّث عن التمييز تجاه الجنسيات الأفريقية والآسيوية في لبنان. «نحن عنصريون»، تقول بغضب. وتعبّر عن معاملتها كسائحة أميركية: «أشعر، رغم حملي جواز سفر أميركياً، أنني لا أملك جنسية حقيقية، فأنا عشت حياتي في لبنان، ولم أحصل على جنسيته، لدي إقامة فقط!». تتابع باستياء: «ولم يحصل أبي على الجنسية بعد عشرين عاماً من الزواج والإقامة في لبنان». تكرّر: «عشرون عاماً، عشرون عاماً من العمل والولاء لهذا البلد». وتنتقد الفتاة، بنبرة حاسمة، الطبقة الحاكمة في لبنان: «لا يأبهون بنا، همهم الوحيد مراكمة الأموال». وتسأل بعفوية لا تخلو من البراءة: «لا أفهم فعلاً كيف تم انتخاب هؤلاء الناس؟ كيف؟!».

كارول كرباج

دلالات :
شارك هذا :

لديك أي أسئلة؟

للاستعلام عن هذا البيان والسياق ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني أو املأ النموذج.