03/11/2011
والبلدية، التي يقول المسؤولون فيها إنهم «مضطرون إلى اتخاذ إجراءات حاسمة» قبل انفجار الأهالي، تعرف جيداً أن الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي نفذوا خلال الأسبوعين الأخيرين حملة توقيف واسعة «طالت 1000 شخص في ليلة واحدة ». وهذا رقم مهول آخر. هؤلاء الموقوفون «جميعهم من الأجانب». و«أجانب» لا تعني «أنهم أكراد وحسب»، يعقّب رئيس بلدية برج حمود، انترانيك ماصرليان، مستغرباً الحديث عن «طرد للأكراد من برج حمود». يرى الرجل أن للضجة المثارة أخيراً «أسباباً سياسية واضحة»، رافقها «بخ» إعلامي متّشح بالغضب على الغرباء. فكل ما في الأمر أن البلدية، وكما في كل عام، طلبت في حزيران المنصرم من مالكي الأبنية والمستأجرين تسجيل عقود الإيجار في مواعيدها، وتقديم تصاريح الشغور وانتهاء الملكية.
استندت البلدية إلى القانون رقم 81/60 المتعلق بالرسوم والعلاوات البلدية، لكن «لم يتجاوب أحد». سرعان ما يستدرك ماصرليان «الغالبية العظمى لم تتجاوب». وقبل الغوص في تفاصيل الإنذار الأخير الذي أحدث الأزمة، يشرح رئيس البلدية أسباب «عدم التجاوب».
«المشكلة ليست مع الأكراد، ولا مع الأجانب». وفقاً لمعلومات ماصرليان، «أقل من ربع الموقوفين أكراد والباقون مقيمون غير شرعيين». وإن كان للتوقيف أسباب سياسية، فالجيش هو المسؤول وليس «الأهالي في برج حمود». ببساطة، المشكلة المعلنة أخيراً هي بين البلدية من جهة ومالكي البيوت من جهة أخرى. أحد متابعي الملف (الإيجارات) في البلدية يشرح الأمر بالتفصيل. منذ ثلاث سنوات تكاثر الأجانب في برج حمود. وهذه ليست مشكلة بحدّ ذاتها. يهمّ الرجل أن يوضح أن لا خلفيات عنصرية أو ثقافية للموضوع. على العكس تماماً، يستفيض مذكّراً بأن العمال المصريين سكنوا المنطقة وتآلفوا مع أهلها، وكانوا دائماً ضيوفاً مرحّباً بهم. كذلك الأمر بالنسبة إلى الآخرين، لكن للعمال المصريين مكانة خاصة في قلوب سكان برج حمود. يبدو هؤلاء «محبوبين» أكثر من غيرهم. المشكلة أن أوضاع الأجانب الإنسانية عموماً باتت لا تحتمل. يحاول المتابع أن يشرح شكل المنازل المكتظة والظروف الصحية المحيطة بها. ثم ينتقل بخفة إلى «صلب الموضوع». لطالما شكى أهالي المنطقة من «تحرّشات» متواصلة يقوم بها العمال. ورغم أن البلدية وأهل المنطقة «يتفهّمون» الظروف الإنسانية الصعبة التي يمر بها هؤلاء العمال، إلا أنهم «ضاقوا ذرعاً بتجاوزاتهم». لكن، هل ضاق الأهالي بتجاوزات اللبنانيين أنفسهم؟ يكتفي الرئيس بسرد سيل من الحوادث، تبدأ بالاعتداء على صبية هنا، و«تلطيش» أخرى هناك، ولا تنتهي بالشرب حتى الثمالة على قارعات الطرق. أشياء وعادات يقوم بها اللبنانيون أيضاً ! لكن الأنكى من ذلك، برأيه، أن ظروف السكن غير قانونية، والبلدية مطالبة من هذه الزاوية تحديداً باتخاذ الإجراءات. ولذلك، كان الإعلان الأخير، الذي نقل الأزمة من كونها تفصيلاً إدارياً بين البلدية ومالكي الأبنية، إلى خلاف بين الأخيرين والمستأجرين عندهم. فالمالك لا يربح إذا أجّر العائلات. والخمسة عشر شخصاً في الغرفة المذكورة، الكائنة خلف شارع المطرانية، ليسوا حالة فريدة. جميع المالكين يؤجّرون ما تسنّى لهم من غرف إلى أجانب، وذلك لأنهم يقبضون «على الراس».
يؤكد المتابع أن المصطلح متداول في المنطقة في أوساط المالكين على وجه الخصوص. أما القيمة الواجبة على الفرد (الأجنبي)، فتتراوح بين 50 و60 دولاراً أميركياً. وإذا افترضنا الرقم الأقل، وضربناه بمتوسط عدد «سكان الغرفة» في برج حمود، يصبح الإيجار 750 دولاراً شهرياً لغرفة رخيصة في حي مهمل، لن تقوى أي عائلة على دفعه. وسابقاً، كان المالكون «يتلاعبون بالسجلات »، وفقاً للمصدر البلدي. يسجلون الغرفة باسم عامل واحد، لكونه يحظى بإقامة شرعية، ويدفع الآخرون «على الطريقة اللبنانية». على أيّ حال، أزمة «إقامات» الأجانب مستفحلة لبنانياً. أما الإعلان الملصق على جدران المباني القديمة، فيوضح أن البلدية، ومن خلفها القوى الأمنية، قررت وضع حدّ لهذا التلاعب، وتالياً ستجري «كشفاً دورياً على الشقق المستأجرة». وهذا ما لم يحتمله «المالكون أولاً، والعمال ثانياً». حتى الآن، المشكلة ما زالت في إطارها القانوني الصحيح، بين بلدية تلهث خلف «سمعتها»، ومالكين لا يأبهون بالتفاصيل الناتجة من الاكتظاظ، وتالياً لا يأبهون «لا بالأكراد ولا بغيرهم».
يبدأ الاكتظاظ بعد الرابعة، إذ يتدفق العمال إلى مساكنهم المدقعة. جلّهم يخاف من الصحافة. أحدهم ظن أن المصوّر «أمن عام». فناوله هويته السورية. آخرُ، يبدو أفريقياً، لمح الكاميرا، فتسلل إلى زقاق داخلي في حي مرعش، بخفة بالغة. تجرّأ أحد السودانيين على الحديث. نفى أي شعور بالضيق. الناس في برج حمود طيبون، وهو يعمل في أحد المطاعم منذ عامين. لم يضايقه أحد، لكنه أحياناً يشعر أن الشباب «الذين يضعون الصلبان السميكة في أعناقهم» يكرهونه. لا يفهم السبب. لكنه غير ناقم عليهم. يلوّح بيده في الهواء، محدقاً إلى شرطي البلدية، ويبتسم: «مش مشكلة». يردّدها مرتين. مشكلة هذا العامل مع الدولة اللبنانية التي «لم تعترف بلجوئه». يتفهّم السكان لأنهم «فقراء مثله». تخيفه بزة قوى الأمن الداخلي. سمع عن «مقتل الحبشية قبل أسبوع»، من دون أن يؤثر فيه الأمر، فهذه «الخلافات تحدث دائماً هنا».
ومروراً بالأحياء الداخلية لبرج حمود، يشتد الهدوء. يفرغ شابان كرديان حمولة في صندوق سيارة، إلى جانب محل قديم يفرغ فيه حرفي أرمني إرث الأجداد. ينفض الغبار عن الأحذية، لكن كونه حرفياً لا يعني أنه ليس مسيّساً. هو أيضاً عامل ويعرف «معاناة العمال »، لكن لهذه المنطقة «تقاليد وعادات». ثم يعاود «جلخ» الجلود، تحت صورة عملاقة تجمع ثلاثة وجوه قديمة لمؤسّسي حزب الطاشناق. خارج المحل، يتسلل عمال آخرون إلى منزلهم في الطبقة الأرضية. كانوا ثلاثة. ملامحهم تكاد تكون متطابقة من شدة التعب. لا يبدو هؤلاء من «مفتعلي المشاكل». ومثلهم بائع الكعك الذي طرده شرطي البلدية قرب أحد مداخل أراكس. طلب منه الشرطي هويته، فبادر البائع سريعاً: «أنا لبناني من طرابلس». لم تشفع له لكنته الطرابلسية الودودة. أجبره الشرطي على الرحيل، لأن «هناك قراراً بمنع العربات في أراكس». وعلى مضض، غادر بائع «كعك القليطة» بصمت، تماماً كما كان أثناء وقوقه. كان البائع ينتظر «الأجانب». هؤلاء هم زبائن «القلّيطة» في برج حمود. وحين أدار ظهره، صرخ في وجه الشرطي: «بتستقووا عالفقير». لم يبد الشرطي أي تفاعل، بل ازداد حدّةً، وبرّر فعلته بالقول: «جرّبنا معهم الكلام الناعم بس ما بيفهمو إلا من فوق». في الشوارع الداخلية، يبدو الشرطي أقل قسوة، إذ يطغى الطابع الريفي على الحي، حتى بين الشرطي نفسه، وبين عمال آخرين يبدون «منصاعين» لبزّته. يحاول الجميع في برج حمود، من « بلديين » وأهالي، التوضيح دائماً أنهم «غير متقوقعين». أحد المسنّين العارفين بتاريخ المنطقة يشير إلى حائط عليه صليب مشطوب: «هنا تقطن عائلة بشراوية»، وإلى جانبها عائلة جنوبية «من آل سرور» ، قبل أن يعقّب و«العامل في ذلك المحل كردي». برأيه، ثمة «تقرير تلفزيوني خرب الدنيا في المنطقة». وطبعاً، لا ينسى «المستقبل» من غضبه، متحيّناً الفرصة لإطلاق موقف سياسي في غير مكانه، فالـ«الحريري بلع الدني».
وإذا قورب الموضوع من زاوية ديموغرافية، لا يعود «موقف» المسن دخيلاً على موضوع الأجانب، إذ يشعر سكان المنطقة أن عملية اغتيال الحريري خلّفت «حالةً من الفوضى» سبّبت ما سبّبت من نزوح «عمالي» إليه، إضافة إلى اعتقادهم أن «خصوصية» المنطقة الأرمنية أسهمت في إبعادها عن التغيّر الثقافي القسري الذي لحق بأحياء المدينة الأخرى بعد الحرب. يختم المسن شهادته: «شو أكراد وما أكراد يا ابني … أرمن بحبّ كل الناس».
في الحديث عن «تركيبة» المنطقة، يجب العودة إلى نشوئها. في الحرب العالمية الأولى كان هناك بعض المنازل، مستنقعات، وبساتين. مساحة على صورة ساحل المتن أول القرن العشرين. السكان الأوائل هم من عائلات قليلة بحثت عن أقرب الأمكنة الساحلية من المدينة، إذ كانت بيروت آخذة في الصعود تزامناً مع تهاوي الدولة العثمانية. وجاء الأرمن من البحر، هاربين من وحشية السلطنة. يجزم كبار السن في المنطقة بأن الأرمن هم البناة الحقيقيون لبرج حمود «الحديثة». وقد يبدو الأمر طبيعياً للكثيرين الذين لا يعرفون عن المنطقة إلا «صبغتها» الأرمنية. لكن، يهمّ ماصرليان التوضيح: برج حمود خليط من القوميات والطوائف الدينية والاجتماعية. يتذكر الرجل أن النازحين الشيعة أتوها في مراحل تأسيسها الأولى أيضاً، عقب النكبة الفلسطينية، وتكرّر الاعتداءات الإسرائيلية على القرويين الجنوبيين. وطبعاً، بعد النكبة، أتى الفلسطينيون أيضاً. وإلى هؤلاء، يشدّد ماصرليان على «نزوح اقتصادي» من الشمال، وتحديداً من قضاء بشري. النزوح الأخير مثّل «نواة» وجود مناصرين للقوات اللبنانية لاحقاً، إلا أن الكثافة العددية أرمنياً حسمت «هوية» المنطقة. هكذا تكوّنت المنطقة من هذا الخليط «الشعبي»، ما أسهم في «تحييدها» عن جنون الحرب الأهلية اللبنانية. يتذكر آخرون في الأحياء الداخلية وقوع مناوشات غير جدية لا توازي في نتائجها «كوارث الحرب الأهلية».
من وجهة النظر الأرمنية، لم يفتعل أهل برج حمود أي إشكالات طائفية تاريخياً. يصرّون على أن حدوث خلافات خلال الحرب كان بسبب قيام «عناصر» خارجية، من الفصائل الفلسطينية أو الكتائب اللبنانية، ببعض «التجاوزات». تساعد التركيبة الديموغرافية للبرج، حالياً، في تدعيم وجهة نظرهم. لا طبقات مرتفعة هناك، خصوصاً في الأزقة المسكونة قديماً. لم تتعرض المنطقة للقصف. البيوت على حالها منذ فترة طويلة، باستثناء «هجمة» باطونية مسلحة على أطراف الشارع. وللمناسبة، حدود برج حمود لا تشبهها إطلاقاً. ورغم رائحة الإهمال المنبعثة ممّا يُسمى «نهر بيروت»، علماً بأنه نفق ضخم لمياه الصرف الصحي، فإن البوابة لجهة شارع أراكس تبدو بالغة الأناقة. وعملياً، برج حمود، كمنطقة سكنية، مقسومة إلى قسمين: أراكس ومرعش. الحي التجاري في أراكس «الذي لا يدخله الأجانب»، ما يوحي بأن هؤلاء «غير مرحّب بهم». وهناك سوق مرعش الشعبي الذي تباع فيه الحبوب والمنتجات الغذائية، ويبدو شعبياً في شكله، إذ يفترش الباعة جزءاً يسيراً من الطريق العام. بيد أن الهدوء هو الهدوء، إن كان الزائر في الشارع التجاري، أو في مركز برج حمود الاقتصادي، أو في السوق الشعبي الذي تتفرع منه الشوارع التي شهدت «أزمة الغرباء» أخيراً.
للاستعلام عن هذا البيان والسياق ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني أو املأ النموذج.
نعمل في حركة مناهضة العنصرية بجهد على العديد من النشاطات والمبادرات المختلفة. معظم نشاطنا تعدّ في الإمكان بفضل فريق من المتطوعين/ات يعمل مع فريقنا الأساسي بشغف و إخلاص.
حركة مناهضة العنصرية هي حركة شعبيّة أنشأتها جهات شبابيّة ناشطة في لبنان بالتعاون مع عمّال وعاملات أجانب. نعمل معًا في الحركة على توثيق الممارسات العنصرية والتحقيق فيها وفضحها ومحاربتها من خلال مبادرات وحملات عديدة. تمّ إطلاق حركة مناهضة العنصرية عام 2010 عقب حادثة وقعت في أحد أكثر المنتجعات البحرية الخاصّة المعروفة في بيروت.