17/07/2018
تحديث: منذ وقت كتابة هذه السطور، تتعرّض إحدى المرأتين الكينيتين اللتين تمّ الاعتداء عليهما لخطر الترحيل عن لبنان.
كان لبنان يُعرف في ما مضى بالدولة الصغيرة الخلابة ذات البحر الدافئ الذي يقع على مقربةٍ من الجبال المكلّلة بالثلوج. أما اليوم، فهو معروفٌ بلائحةٍ أطول من الأمور: كراهية شديدة تجاه اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، ونظامكفالةمروّع، وتاريخ طويل من إساءة معاملة مئات الآلاف من المهاجرين، وسلسلة من عمليات الانتحار في صفوف العاملات المنزليات، فضلاً عن مهارةٍ في تجاهل مشكلة العنصرية وكأنها ضربٌ من الخيال. بالإضافة إلى ذلك، يُعرف لبنان اليوم بتراجع موسم التزلّج لدرجةٍ تكاد تكون معدومة، وبحر ملوّث على نحوٍ لا يمكن تصحيحه. نظراً إلى كلّ ما سبق، نحن، بكلّ تأكيد، في مكانٍ لا نُحسد عليه.
يوم الأحد الموافق السابع عشر من حزيران، في فترة ما بعد الظهر، تعرّضت امرأتان كينيتان لاعتداءٍ عنيف في أحد شوارع بيروت على يد عصابةٍ تضمّ ما لا يقلّ عن عشرين رجلاً. كانت روز* قد اشترت زوجاً من الأحذية كهديةٍ إلى شايلا* بمناسبة عيد ميلادها. خطّطت الاثنتان لتناول السمك عند العشاء. فاجتمعتا في أحد دكاكين برج حمود، وابتاعتا حاجياتهما ثم توجّهتا إلى المنزل استعداداً للاحتفال من دون أن تتدخلا في شؤون أحد، وكلّ ما تتمنّياه هو قضاء عطلة نهاية أسبوع سعيدة ومريحة. كان بمقدور شايلا أن تتخيّل حدوث أيّ شيء يوم عيد ميلادها إلا ما حدث بالتحديد. فبينما كانتا تسيران عائدَتين إلى المنزل، إذا بسائق سيارة معتوه، صادف أنه أيضاً عنصر في الجيش، يقرّر أن يتسلّى، وعائلته معه في السيارة، فيتعمّد لفّ المقود نحوهما متظاهراً بأنه يريد صدمهما، وهذا ما فعل. فعمدت إحدى المرأتان إلى دفع الأخرى بعيداً عن السيارة، وإذا بالاثنتين تقعان على الأرض ومعهما حقيبتيهما والحذاء. وقفتا، وطالبتاه بشرحٍ علّه يبرّر لمَ يفعل بهما ذلك، هما اللتان كانتا تهتمّان بشؤونهما الخاصة في يوم الأحد الهادئ هذا. فأجابهما بعجرفة أنه في بلده، وبالتالي يحقّ له أن يفعل ما يريده من دون أن يستجوبه أحد. يا لكرم الضيافة اللبنانية تجاه النساء المهاجرات ذوات البشرة الملوّنة!
وسرعان ما ترجّل السائق من سيارته وانهال بالضرب على المرأتين، وقد مدّه بالدعم رجالٌ آخرون في الشارع، فضلاً عن زوجته. استمرّ الضرب لساعتين كاملتين، بينما اكتفى المارة إما بالمشاهدة وإما بالمشاركة في الاعتداء. تناوبوا، واحداً تلو الآخر، على إذلال الجسدين الكينيين إلى أن وصلت الشرطة وأخذتهما إلى المخفر. وعندما أقول أخذتهما، فأعني بذلك المرأتين اللتين تعرّضتا للضرب. بعد أسبوع، نُقلتا إلى مركز الاحتجاز التابع للأمن العام في العدلية. لم تخضعا لفحص طبيب. كدماتهما ما زالت على حالها ودمهما يغلي كما في اللحظة الأولى.
هذه ليست بالمرة الأولى التي تقع فيها مثل هذه الحادثة في لبنان. لكنّ بعض الحوادث تجد طريقها إلى الإنترنت بعكس الكثير الكثير غيرها. ولعلّ شبكة الإنترنت لا تتّسع لتلك الحوادث كلّها. فتخيّلوا إذاً أنه يجدر بنا أن نكون شاكرين لأحد المارّة على عمله الشجاع، عندما قرّر التقاط الفيديو القصير عوضاً عن اتّخاذ أيّ تحرّك آخر لإنقاذ الضحايا.
إسمحوا لي أن أضيف شيئاً آخر: من الممارسات الشائعة في لبنان هذه الأيام أن تُعرَض مثل هذه الفيديوهات المهمّة للبيع. إذا كنتَ تريد شيئاً، عليك بشرائه. ولو أنّ صديقات هاتين المرأتين لم يتلقّينَ معلومةً غير مباشرة بوجود هذا الفيديو، كدليل بسيط على الوحشية التي تعرّضتا لها على مرأى من الجميع، ولو أنهنّ لم يدفعنَ ثمن ذلك عبر إرسال تحويلة مالية إلى الشخص المعنيّ لتلقي الفيديو ونشره عبر الإنترنت، لما كان أيٌّ منا قد اكتشف ما حدث على الإطلاق ولكان قد تمّ ترحيل المرأتين، على الأرجح، إلى كينيا قسراً منذ وقتٍ طويل.
في العام الماضي، وقع حادثٌ مماثلٌ في برج حمّود، حيث تعرّض زوجان أفريقيان وطفلتهما الرضيعة لاعتداء على يد جيرانهم الذين لم يكونوا راغبين في أفارقة يسكنون مبناهم، مع أنّ هؤلاء الجيران لم يكونوا حتى أصحاب المبنى. تحمّل الزوجان من نيجيريا وكينيا وابنتهما معاملةً قاسيةً ومتنمّرة من جيرانهم غير المتحضّرين، كعدم السماح لهما باستخدام المطبخ المشترك في الطابق الأرضي، ورمي موادّ خطرة نحو شرفتهما الصغيرة من الطابق العلوي، واقتحام منزلهما، إلى جانب سلسلة من أعمال العنف الشديد المشابهة. ذات يوم، تهجّم الجيران على الفتاة الصغيرة، موجّهين لها شتائم لا يتّسع لها الخيال، ثم أقدموا على ضرب الأمّ وشدّ الأب من ضفائره المجدولة. بعد ذلك، وصلت الشرطة فأمرت الضحايا بإخلاء المنزل في الحال. لم يتحرّك المارة في الشارع، لم تتحرّك الشرطة، لم يتحرّك صاحب الشقة، بل التحرّك الواضح الوحيد كان إرغام هذه الأسرة الصغيرة على مغادرة المنزل في الحال، مع إعطائها إشعار في موعد لا يتجاوز الثماني والأربعين ساعةً، بحجة "تفادي أيّ خطر إضافي عليها". لكن بفضل التضامن الذي أظهره كلّ من قرأ هذا الخبر، لقيت الأسرة مساعدةً للانتقال إلى منزل آخر في المنطقة، مع أنّ العدالة بقيت بعيدةً عنها بأشواط. فسرعان ما غادر أفراد الأسرة لبنان حاملين معهم هذه الذكرى الوحيدة التي سيحفظونها عن هذا البلد إلى الأبد.
إلى جانب ذلك، غالباً ما يروي رجالٌ سودانيون عن تجربة اختبروها وهم ينتظرون المصعد، فإذا برجل لبناني يصل من بعدهم ولا يتوانى عن الدخول إلى المصعد، بمفرده، تاركاً الرجل السوداني خارجاً. فأين اختفت أخلاقنا ولباقتنا؟
شخصياً، أعمل مع عاملات مهاجرات ومنزليات منذ عدّة سنوات، لكنّني دائماً ما أشعر بالقلق عندما أضطر إلى التعريف بنفسي أو شرح طبيعة عملي لغرباء من خارجي حلقة أصدقائي أو المقرّبين مني. فدائماً ما لا يفهم الناس ما أقصده عندما أقول إنني أعمل مع مهاجرين في هذا البلد، أو مع أشخاص ذوي وضع غير نظامي، أو أننا نحلم بتحسين ظروف المهاجرين، فننظر في قضايا التمييز، والتنمّر، والتحرّش، والعنصرية وما إلى هنالك. يبدو هذا الكلام للكثيرين مجرّد ترّهات. يأتي السؤال، ويأتي معه هذا الوجه الفارغ نفسه. أتوقّعه في كلّ مرّة، ونادراً ما أتبيّن أنني على خطأ. فمعظم الأشخاص، بغضّ النظر عن مدى تقدّمهم على أكثر من صعيد، لا يفهمون ما أقصده، أو ما أفعله، أو لمَ أفعله، أو كيف أرتّب أولوياتي. فلمَ لا أناضل من أجل حقوق اللبنانيين أوّلاً؟ أسمع هذا السؤال وما يتضمّنه من فراغٍ، فأنفر اشمئزازاً. ما قصّة العنصرية بأيّ حال وكيف يُعقل أنها تحتلّ الأولوية؟ لمَ لا تركّزين على المسائل المهمّة؟ يسألون... فأبتسم وأخفي تنهيدةً.
ذات مرّة، كنت أشارك في نشاط في مركز المهاجرين المجتمعي، وكانت صديقتي على وشك الوصول لإعطائي هاتفي الذي كنت قد نسيته معها قبل يوم. نزلت السلالم لآخذه منها، بينما كانت تنتظرني في سيارتها أمام المبنى، فإذا بي أراها جالسةً خلف المقود، والمقعد إلى جانبها خالٍ، بينما عاملة أثيوبية، "عاملتها" المنزلية، تجلس في المقعد الخلفي. فإذا لم تكن قد استطاعت، وهي في طريقتها لرؤيتي، في مركز المهاجرين بالذات، مدركةً تمام الإدراك طبيعة هذا المكان وما يمثّله، أن تتكبّد عناء التظاهر بأنها تسمح "لعاملتها" المنزلية بالجلوس في المقعد الفارغ في المقدّمة، ما الذي يمكن للمرء أن يقوله بعد؟ نظرت إليها ثم إلى الخلف. فاحتاجت إلى وقت طويل لكي تفهم فيمَ أحدّق، ثمّ قالت: "آه، لم أنتبه إلى أنها جلست في الخلف". ألم تنتبه، طيلة رحلةٍ استغرقت خمس وعشرين دقيقة، أين كان يجلس الشخص الوحيد المتواجد معها في السيارة؟
حسنٌ.
قصّةٌ أخرى احتلّت عناوين الأخبار عندما مُنع طفل أسود البشرة من الالتحاق بحضانة لأنّ أهل الأطفال اللبنانيين الآخرين رفضوا أن يكون طفلٌ أسود اللون زميلاً لأبنائهم في الصفّ نفسه. فما كان من إدارة هذه الحضانة إلا أن ردّت رسوم التسجيل إلى الوالد بعد أن كان قد سدّدها، طالبةً منه إيجاد حضانة أخرى تستقبل ابنه. حدث هذا في حزيران 2018، قبل أسبوعين فقط، والطفل المتضرّر في هذه الحالة لا يتجاوز السنتين من العمر.
حكت لي صديقة سودانية مرّة، انتقلت اليوم للعيش في فرنسا، عن ابنها الذي عاد إلى البيت ذات يوم بسنٍّ مكسورة بعد أن تعرّض للتنمرّ والضرب على يد أطفال آخرين في ملعب المدرسة الابتدائية لأنه كان الطفل الوحيد غير اللبناني بينهم. فاجتمعت هذه الصديقة بمدير هذه المدرسة الخاصة في بيروت في اليوم التالي، مطالبةً إياه باتّخاذ إجراءات فورية، لتتفاجأ به يردّ، بنبرةٍ تكاد تقارب النفور، أنّ هذه مسألة لا تستدعي تدخل الراشدين فيها: "إنهم مجرّد أطفال يلهون معاً." فنقلت ابنها إلى مدرسة أخرى، لكنه كان غالباً ما يعود إلى المنزل ويسأل أبويه عن كيفية نزع جلده عنه. يتعلّم الأطفال ذوو البشرة الملوّنة، لا سيّما الفقراء منهم، درساً واحداً جيّداً جداً في المدارس اللبنانية، ألا وهو كيف يكرهون أنفسهم.
ذات يوم، كنت في أسواق بيروت مع طفلَي أصدقائي الأثيوبيين. كانا في الرابعة والخامسة من عمرهما على التوالي. فإذا بـ"مدام" لبنانية مع طفلين في عمرهما تقريباً وعاملة منزلية بطبيعة الحال تهرع نحوي، بالكاد تنظر في عينيّ، بالكاد تهمس بالتحيّة، ثم تنزع الطفلين من يديّ وتجبرهما على التقاط صورة مع طفليها. "يلا ماما، وقفوا حدّن". لم تطلب إذني، ولم تسأل حتى عن اسميهما. لم تهتمّ بكسر الحاجز ما بيننا، ولا بتسهيل أي تواصل بين طفليها والطفلين اللذين كنت أرافقهما. كلّ ما أرادته هو التقاط تلك الصورة المميّزة. بعد ذلك، مضت في سبيلها وكأنّ هذا المشهد الباعث على الاشمئزاز الشديد لم يحدث قط.
أما وسائل الإعلام المحلية، فلم تبدأ بتغطية هذه القضايا إلا في الآونة الأخيرة، بتأثيرٍ من تغطية وسائل الإعلام العالمية في أغلب الحالات، إلا أنّ تقاريرها في هذا المجال لا ترقى إلى مصاف الجدّية، بل تجري العادة أن تركض وراء الإثارة لإحداث ضجة إعلامية وتغطية الخبر من الزاوية الخاطئة. فتكثر البرامج التي تدعو كلا طرفي المشكلة إلى الحوار، وفق ما يتمّ تأطير الحلقة، من أجل التباحث في أمورٍ أساسية.
"هل الشعب اللبناني عنصريّ؟"
"هل الجرائم تُرتكب بمعظمها على يد "المدام" أم الخادمة؟"
"هل تمانع السباحة في البركة نفسها مع شخص أسود البشرة؟"
يفاخرون بأنهم يعرضون فئتين من الأشخاص، المدامات والعاملات، اللبنانيين وغير اللبنانيين، مبرّري العنصرية والناشطين المناهضين لها، ثم يحملونهم على الصراخ على بعضهم داخل الاستديو من دون أن يعالجوا جوهر المشكلة قط، لأنّهم يطرحون الأسئلة غير المناسبة منذ البداية. فإذا كان منطق مدير البرنامج والمذيع ملتوياً منذ البداية، فما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تحقّقها هذه البرامج؟ يدّعون أنهم يمثّلون القضايا بينما يُجلسون مجموعتين مختلفتين من الأشخاص في مكانين متقابلَين تماماً من الاستديو، فيقلبونهما على بعضهما البعض، ويُحدثون بلبلةً من غير داعٍ، مستمتعين بمشاهدة العراك وكأنها يشاهدون مباراةً في كرة القدم، ومتظاهرين بأنه يأتون عمل خير. كلا، ما هكذا تُمارَس الصحافة. ما رأيكم لو تختارون موضوعاً؟
سنوات مضت والعاملات المنزليات يمتنَ بمعدّلات معيبة بلغ أقصاها وفاة عاملة أو اثنتين أسبوعياً. وما زلنا بانتظار صحافيّ واحد يفتح تحقيقاً جدّياً بالموضوع لتتبّع قصّة أيٍّ من هؤلاء النسوة. لا أسماء، لا وجوه، لا صور، بل الاكتفاء بالإشارة إليهنّ بالأحرف الأولى من أسمائهنّ في بعض الأحيان. هل سألنا مرّة أو هل اهتممنا بالسؤال عن كيفية وفاة هذه النساء فعلاً؟ أكنّ متدّليات من طوابق عالية، ينظّفنَ شبّاكاً ما؟ أكنّ يحاولن الهرب من المخرج الوحيد المتاح أمامهنّ؟ أكان باب المنزل مقفلاً فعلاً؟ أكان باب البرّاد مقفلاً أيضاً؟ ألاحظ الجيران وجود عاملة منزلية في ذلك الطابق بالتحديد أو هل رأوها يوماً؟ أتجاهلوا أنّات نحيبها أو قرّروا صرف النظر عن صوت الضرب، تجنّباً لمواجهة مزعجة مع معارفهم في البناية؟ هل أُجبرنَ على البقاء بعد انتهاء صلاحية عقد العمل؟ متى كانت آخر مرّةً أرسلنَ فيها أموالاً إلى ذويهنّ؟ هل خرجنَ من البيت مرّةً؟ هل عملنَ بموجب عقد عمل محدّد أم كنَ مستعبَدات؟ وفي حال أقدمنَ على الانتحار فعلاً، ما مقدار العذاب، والكآبة، والحنين إلى الوطن، والقلق، واليأس الذي تعرّضنَ له كي يتّخذن قراراً كهذا وينفّذنه؟ أسمعتم بأيّ بلد توفيّ فيه أكثر من 70 لبنانياً يمارسون نوعاً محدّداً من الوظائف في سنةٍ واحدة تقريباً؟ أولن يتصدّر خبراً كهذا عناوين الصحف؟ أولن يندرج ضمن خانة الأخبار الفاضحة والمروّعة؟
أذكر أنني قرأت تقرير شرطة عن وفاة عاملةٍ قبل بضع سنوات. كما أذكر بوضوح أنّ الضحية، بحسب التقرير، كانت من النيبال. لكنّ الفقرة التي تتناول وصف المحتوى ذكرت أنها كانت من جنسية أفريقية. ليس باستطاعتنا التمييز بين البلدان والقارات والجنسيات، لا نعرف مواقع البلدان على الخريطة، ونؤمن في الوقت نفسه أنّه يمكننا الاتكال على هذه المؤسسات لتحقيق أيّ نوع من العدالة لهؤلاء النساء المتوفيات. يا لهكذا تقرير رسمي صادر عن جهاز شرطة!
يكفي أن تلقوا نظرةً سريعةً على أيّ موقع إلكتروني مثير للجدل، أو تعليقات على فيديو أو رابط أو خبر، وستبكون حرقةً ويأساً. ففي جعبة النساء اللبنانيات (من زوجات وأمهات وصاحبات عمل)، على سبيل المثال، الكثير الكثير ليقلنه على مجموعات الدعم العديدة التي يتواصلن عبرها على فايسبوك. إنّ خطاب "المدام" حقيقيّ. يتحدّثنَ عن العاملة المنزلية وكأنها تمثّل أقصى درجات الخطر على أسرهنّ وأزواجهنّ وأطفالهنّ، لكنهنّ لا يشرنَ أبداً إلى أقصى درجات اتّكالهنّ على عملها ومساعدتها كلّ يوم (أو كلّ ساعة؟). يشجّعن بعضهنّ على عدم منحها أيّ حقوق ومصادرة أوراقها وحرياتها قدر المستطاع منذ البداية لئلا يفقدن السيطرة عليها بمرور الوقت. لغتهنّ ومنطقهنّ من القساوة لدرجة أنّك تكاد تشعر وكأنهنّ يتحدّثن عن جنس آخر من الناس، عن نوع من غير فصيلة البشر، عن آلات، أو روبوتات. إلى جانب ذلك، يعتبر الكثير من أصحاب العمل اللبنانيون أنفسهم الضحايا في هذه العلاقة وهذا مخيف حقاً. يبرّئون أنفسهم ويخلون مسؤولية المجتمع والأنظمة المطبّقة عن المآسي اليومية التي تحلّ بالعاملات. كلّ ما يكرّرونه هو حجج عن مدى غباء النساء الأثيوبيات والجنسيات الأخرى، وكسلهنّ، وبطئهنّ، وتخلّفهنّ. يصنّفونهنّ ضمن خاناتٍ صارمة من الأحكام العنصرية المسبقة ويؤمنون بصدق ما يلفظونه من مغالطات. يغيّرون أسماء العاملة، يعاملونها بتكبّر، وكأنها غير مرئية، ويتحدّثون عنها بحضورها بسخرية وتهكم- وهم مصرّون في الوقت نفسه على أنهم يعاملونها كفردٍ من الأسرة، ولهذا يجبرونها على مرافقة الأسرة في أيام الآحاد في نزهاتهم ذات الطابع اللبناني الخالص، حيث لا تعرف أحداً ولا تتكلّم مع أحد، بل تجلس على طاولةٍ منفصلة بمفردها وتأكل طعاماً لا يعني لها شيئاً. فبربّكم، إن لم يكن هذا يوم أحد ممتعاً، فكيف عسى يوم الأحد يكون إذاً؟
بوسعنا التحدّث أيضاً عن الترابط بين ما يحدث، من جهة، على الشواطئ اللبنانية التي تحظّر، وبكلّ وقاحة، دخول بعض الأشخاص كزبائن لهم كرامتهم، ومن جهة أخرى عشرات البلديات التي لم تتوانَ عن رفع لافتات غير شرعية، واحدةً تلو الأخرى، تهدّد فيها السوريين وتمنعهم من السير في الشوارع في ساعات معيّنة من النهار. في الحالة الأولى، يتمّ الخلط بين العاملات المنزليات أو"الخادمات"، كما يُشار إليهنّ غالباً، وأيّ امرأة ذات بشرة ملوّنة (و/أو امرأة من بلد أفريقي أو جنوب آسيوي). أما الحالة الثانية، فتفترض أنّ السوريين يمثّلون "نسلاً" معيّناً من الأشخاص يمكن التعرّف عليهم بمجرّد نظرة سريعة إلى جبينهم.
أرجوكم، سايروني قليلاً، واشرحوا لي كيف يمكن لأيٍّ كان أن يميّز العاملة منزلية عن غيرها، أو يتكهن من يكون عاملاً مهاجراً، ومن السوري، واللبناني، وكيف نتصرّف مع الأشخاص الذين هم سوريون ولبنانيون في الوقت عينه مثلاً؟ أيّ مستويات سريالية من قلة الذوق يجب أن يبلغها المرء ليشعر أنه يحقّ له تقرير من يمكنه الاسترخاء أمام حوض السباحة، ومن يمكنه التمدّد على الشاطئ، ومن لا يمكنه فعل أيّ من الأمرين؟ هناك بعض الأماكن التي تمنع حتى العمّال المهاجرين، أو الأشخاص الذين يتمّ الافتراض أنهم كذلك، من السباحة في البحر أيضاً. هؤلاء يفترضون، كما كانت الحال في برك السباحة المنفصلة في ما مضى، أنّ ذوي البشرة السوداء أكثر قذارةً من ذوي البشرة البيضاء، مع افتراض لبنان (أو تمنّيه؟) أنه يندرج ضمن خانة البشرة البيضاء في هذه المعادلة. هؤلاء أشخاص لا يمزحون بشأن ممارسة عنصريتهم، بل يتباهون بها بكلّ جدارة.
أذكر يوماً أنني كنت أتصفح مطوية أحد منتجعات الخمس نجوم الخاصة في بيروت، وكانت تتضمّن بندين متتالين، أحدهما يمنع دخول الكلاب والآخر، تحته مباشرةً، يمنع دخول مربّيات الأطفال. الواحد تلو الآخر.
اللائحة طويلة ومحزنة. يمكننا الإشارة إلى ما يحدث في الدعاوى المتعلقة بالعاملات المهاجرات في المحاكم، وعن ذلك المشهد اليومي لعشرات النسوة الجالسات في إحدى زوايا مطار بيروت، حيث "غرفة العزل" السيئة السمعة التي تُرغم العاملات المنزليات القادمات للمرة الأولى على المرور فيها بانتظار كفيلهنّ، وعن شبه المعاملة التي يتلقّينها في المستشفيات على يد أطباء وممرّضين، وبطبيعة الحال عمّا لا يُعدّ ولا يُحصى من الأخبار التي تحدث في منازلنا مع آلاف العاملات المنزليات اللواتي يخضعن لرحمة صاحب عمل تشاء الصدفة أن يكون إما "جيّداً" وإما "سيّئاً"، خاصّةً في ظلّ وجود نظام الكفالة وانعدام أيّ آلية حماية قانونية لتنظيم إقامتهنّ.
ولعلّ لا شيء يفضح حالة العنصرية أكثر من لامبالاة الدولة والأنظمة المطبّقة حالياً وعجزها عن إحقاق الحقّ لحليمة و لنسا.هنا، أشجعكم على زيارة مدوّنة"This is Lebanon" (هذا هو لبنان)الإلكترونية للاطلاع على هاتين القصّتين، ومشاهدة الفيديو الخاص بحليمة، فالتفكير بما عسانا نفعله لنكفّ عن الرسوب في الامتحان والتخلي عن كلّ هؤلاء النسوة في أوضاع تعيسة أشبه بالعبودية، كتلك التي يطلعنا عليها موقع "هذا هو لبنان".
يُخيّل إليّ أنّ العديد من اللبنانيين يعتقدون أننا نكثر من التحدّث عن العنصرية، أو أننا نبالغ، وأنّ معظم هذه الأحداث إنما هي أحداث فردية لا تتّبع أنماطاً معيّنة من العنف أو سوء المعاملة أو الاستغلال. أما أنا، فأعتقد أننا لا نلفظ كلمة "العنصرية" بما يكفي. ليس هناك ما يكفي من الغضب، ولا ما يكفي من التشكيك في ما نسلّم به جدلاً منذ زمن طويل في هذا البلد، في بيوتنا، وعاداتنا، وعلاقاتنا بالآخرين، وآرائنا وأحكامنا المسبقة، وصمتنا، وتقاعسنا عن العمل، وميلنا إلى النسيان.
ماذا عسانا نفعل لنعالج مشكلة العنصرية التي نعاني منها؟ متى سنحدّق فيها مباشرةً ونقرّ بثقل العمل الذي يترتّب علينا لننتشل أنفسنا من هذا القاع العميق الذي نحن غارقون فيه؟ يكفي أن يطبع المرء كلمتي "عنصرية" و"لبنان" معاً على محرّك غوغل، لتطالعه صفحات وصفحات من المناقشات والمخاوف والأسئلة التي تطرحها مجموعة واسعة من الأشخاص الراغبين في زيارته أو المضطرين لذلك، غير أنهم قلقون بشأن ما سمعوه عن لبنان، ويطلبون المساعدة والنصح من الآخرين لمعرفة إذا كان يجب أن يقوموا بهذه الزيارة أم لا. لبنان وعنصريته مواضيع نقاش فعلية تحتلّ صفحات المنتديات هذه الأيام. فهلا نستوعب ذلك قليلاً؟ أمامنا عمل نقوم به، الكثير من العمل، وعلى أكثر من صعيد، مع أشخاص كثيرين، أوّلاً وقبل كلّ شيء عمل على أنفسنا، وأُسرِنا، وحيّنا، ومساحاتنا الخاصّة. هيا، فلنبدأ جدّياً.
This article was written by Farah Salka, director of the Anti Racim Movement (ARM) and of the Migrant Community Center. A shorter version appeared in L’Orient-Le Jour under the title of ‘Racisme : Libanais, il est temps de regarder notre barbarie en face!‘. It was originally published on Tuesday June 26th, 2018.
Arabic translation by Nour El-Assaad, with many thanks.
Autrefois connu pour la proximité entre ses montagnes (toujours moins) enneigées et sa mer chaude (désormais irréversiblement polluée), le Liban doit dorénavant composer avec d’autres « images d’Épinal » : sa xénophobie contre les réfugiés, son horrible système de kafala, la fameuse « chambre d’isolement » de l’aéroport de Beyrouth où sont parqués les employées de maison à leur arrivée, ou les vagues de suicides qui déciment ces dernières. Sans omettre un talent certain pour se voiler la face et ignorer ces manifestations constantes de racisme…
Un racisme dont nous avons eu une nouvelle illustration dimanche dernier, à Bourj Hammoud, lorsque deux Kényanes, Rose et Shamila, ont vu leur vie basculer : alors qu’elles s’apprêtaient à rentrer chez elles pour fêter l’anniversaire de cette dernière, un chauffard, militaire de son état, a trouvé malin, avec femme et enfants à bord, de braquer sa voiture pour faire mine de les écraser, précipitant la chute de l’une d’elles. Et lorsque, une fois relevée, elle l’interrogea sur la raison de son geste, le conducteur ne trouva rien de mieux que de rétorquer – dans un sens aigu de l’hospitalité à la libanaise : « Parce que je suis dans mon pays et que je suis libre de faire ce que je veux. » Avant de joindre le geste à la parole et de se déchaîner contre les deux femmes, bientôt rejoint par la sienne et une quinzaine de quidams, spectateurs ou complices, jusqu’à ce que la police intervienne pour embarquer… les victimes. Une semaine plus tard, elles sont toujours au centre de détention de la Sûrété générale de Adlieh (du fait de leur situation de séjour irrégulière) et n’ont toujours pas vu de médecin. Difficile de ne pas songer à ce qu’il se serait passé si un spectateur n’avait pas choisi d’immortaliser, dans une courte vidéo, une partie de cette scène ; si, ensuite, les amis de Rose et Shamila n’avaient pas appris l’existence de cette vidéo et consenti – comme il est souvent d’usage dans ce genre de cas au Liban – à l’acheter (!) pour la publier en ligne : aucun de nous n’aurait vu cette preuve de leur calvaire, et elles auraient probablement déjà été expulsées de force au Kenya…
Violence au quotidien Car des « incidents » comme celui de dimanche sont innombrables au Liban, mais rares sont ceux qui font le tour d’internet ou arrivent aux oreilles de l’opinion. Il y a ce couple nigériano-kényan forcé par la police à quitter son domicile sous 48h, « pour leur sécurité », après que les vexations en série infligées par des voisins qui ne voulaient pas d’eux dans l’immeuble eurent dégénéré en agression physique et violente contre eux et leur petite fille en bas âge. Ils ont fini par quitter le Liban sans que justice ne leur ait été rendue et avec ce souvenir de notre pays ancré à jamais… Il y a aussi ce fils d’une amie soudanaise, maintenant réinstallée en France, qui, à force de se faire harceler et battre par ses camarades à l’école – où l’on apprend si bien à se haïr –, a demandé à sa mère comment il pourrait arracher sa peau… Une histoire qui évoque celle, rapportée il y a deux semaines par les médias, de cet autre enfant soudanais, contraint, à moins de 2 ans, de quitter sa garderie à Zouk Mikaël parce que les autres parents libanais refusaient de voir leurs enfants le côtoyer. Longue et triste est la liste de ces exemples du racisme omniprésent, en verbe comme en action…
Ce racisme, les médias locaux ont fini par l’aborder, souvent sous la pression médiatique internationale, mais en privilégiant le sensationnalisme à la réflexion. Que penser de ces « débats » télévisés, où l’on met en scène la confrontation stérile entre les représentant des deux camps autour de questions telles que : « Les Libanais sont-ils racistes ? » « Les crimes sont-ils principalement commis par des “dames” ou leurs servantes ? » « Ça vous dérange de nager dans les mêmes eaux qu’une personne noire ? » Cela fait des années que les employées de maison meurent à une fréquence affolante (atteignant parfois 1 à 2 décès par semaine). Combien d’enquêtes journalistiques sérieuses racontant vraiment l’histoire de l’une de ces femmes ? Nous demandons-nous jamais comment elles meurent réellement ? Sont-elles tombées de leur étage en nettoyant une fenêtre ou tentaient-elles de s’échapper par la seule issue possible ? Avaient-elles un contrat de travail, le droit de sortir ? Les voisins n’ont-ils pas entendu leurs pleurs ou des bruits de coups ? Et si c’était vraiment un suicide, à quel point la dépression, le désespoir et leur enfer quotidien les ont poussées à agir ainsi? Lorsqu’une catégorie d’emploi dénombre plus de 70 décès en près d’un an, cela ne mériterait-il pas les manchettes ?
Quid des institutions ? J’ai eu l’occasion de lire un rapport de police officiel sur la mort d’un travailleur il y a quelques années et où il était notamment écrit à un paragraphe que la victime venait du Népal et à un autre qu’elle était de « nationalité africaine » … Comment rendre justice à ces femmes mourantes si nous ne pouvons même pas distinguer les pays des continents ou les placer sur une carte ? Rien n’incarne plus ce racisme institutionnalisé que l’apathie et l’impuissance de l’État et du système judiciaire à rendre justice à Halima – maintenue dix ans en esclavage par ses « employeurs » – et à Lensa – ramenée chez ses patrons après l’hospitalisation qui a suivi son saut du deuxième étage. Il faut regarder attentivement ces histoires sur le blog thisislebanon.org, y regarder la vidéo narrant celle de Halima et réfléchir sérieusement à ce que nous pouvons faire pour cesser d’échouer en laissant toutes ces femmes en situation d’esclavage. Ségrégation De même, beaucoup d’employeurs libanais se perçoivent comme des victimes, s’absolvant constamment de toute responsabilité par rapport aux tragédies vécues par les employés de maison. Il faut entendre le discours de « Madame », dans les groupes de discussions sur les réseaux sociaux ou les commentaires de vidéos narrant ces drames. On y parle des employées de maison comme d’une menace pour sa famille – sans jamais évoquer sa dépendance vis-à-vis de leur travail quotidien (calculé sur base horaire ?). Dans un langage qui semble viser une espèce différente, ou des machines, on s’encourage à ne pas leur accorder trop de droits et à confisquer leurs papiers dès le début pour « ne pas perdre le contrôle »… On change leurs noms, on les paternalise, les traite comme des invisibles et les raille en leur présence… Le tout en assurant qu’elles font néanmoins partie de la « famille » : après tout, ne sont-elles pas « conviées » à passer leur dimanche à accompagner leurs patrons dans ces sorties très libanaises, où elles ne connaîtront personne, mangeront à une table séparée et ne parleront à personne ? Et que dire de ces stéréotypes rigides et fruits de l’ignorance dans lesquels la plupart de nos concitoyens enferment les employées de maison ou les migrants ? J’aimerais que l’on m’explique une fois pour toutes comment catégoriser quelqu’un en un coup d’œil. Comment distinguer le Syrien du Libanais (quid des binationaux ?). Que l’on m’explique aussi à partir de quel niveau d’indécence surréaliste l’on peut s’arroger le droit de décider qui peut sortir à la piscine ou avoir accès à la mer en fonction de son origine, selon une logique de ségrégation semblable, jusque dans ses motivations (on entend souvent évoquer l’hygiène…), à celles des États qui la pratiquaient autrefois de manière institutionnelle. Je me rappelle encore la brochure de cet établissement 5 étoiles à Beyrouth où étaient accolées deux mentions successives, interdisant respectivement l’accès « aux chiens » et « aux nounous » ! Cela fait plusieurs années maintenant que je travaille avec des travailleurs migrants et des employées de maison, et je m’inquiète toujours quand je dois présenter mon travail à des Libanais hors de mon cercle de relations : vais-je encore une fois avoir droit aux sempiternelles questions : « Pourquoi parler de racisme ? » « Est-il si diffus ? » « Pourquoi ne vous concentrez-vous pas sur les problèmes importants ou défendre en priorité les droits du peuple libanais »? Ne reste plus alors qu’à sourire et étrangler mes sanglots… Comme si ces incidents étaient ponctuels et ne traduisent pas la perpétuation d’un système de violence, d’abus et d’exploitation. C’est tout le contraire : le terme est le bon et nous n’en parlons pas assez. Il n’y a pas assez de colère ni de remise en question de ce que nous prenons pour acquis depuis trop longtemps dans ce pays. De nos habitudes, nos préjugés, nos silences et notre passivité face au racisme. Quand allons affronter l’ampleur du travail qu’il nous reste à faire pour sortir de cette fosse commune? Il est immense et doit être mené avec le plus grand nombre et à de multiples niveaux – à commencer par nos propres foyers et relations. Bref, il est temps de commencer à regarder notre barbarie droit dans les yeux !
First posted on L’Orient Le Jour
للاستعلام عن هذا البيان والسياق ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني أو املأ النموذج.
نعمل في حركة مناهضة العنصرية بجهد على العديد من النشاطات والمبادرات المختلفة. معظم نشاطنا تعدّ في الإمكان بفضل فريق من المتطوعين/ات يعمل مع فريقنا الأساسي بشغف و إخلاص.
حركة مناهضة العنصرية هي حركة شعبيّة أنشأتها جهات شبابيّة ناشطة في لبنان بالتعاون مع عمّال وعاملات أجانب. نعمل معًا في الحركة على توثيق الممارسات العنصرية والتحقيق فيها وفضحها ومحاربتها من خلال مبادرات وحملات عديدة. تمّ إطلاق حركة مناهضة العنصرية عام 2010 عقب حادثة وقعت في أحد أكثر المنتجعات البحرية الخاصّة المعروفة في بيروت.