تعرّف اللبنانيون في الأيام الأخيرة على مروان حمزة في ظروف مأساوية. باتوا يعرفون عنه الكثير، وربما أكثر مما يجب. بفضل وسائل الإعلام اللبنانية التي جعلت من رحيله خبراً أوّل، سمحنا لأنفسنا، نحن القراء والمشاهدين، بالتنظير في موضوع صحّته النفسية، وعائلته، وأموره الخاصة. ذهبت التغطية الإعلاميّة أبعد من إعلامنا بأنّه شاب لم يتم الثانية والعشرين من العمر، توفي بعدما هوى عن سطح الطبقة السادسة في مبنى السكن الجامعي في «الجامعة الأميركية في بيروت». تفوقت على نفسها في طرح الفرضيات حول موته، وتحويل الشاب وفاجعة ذويه، إلى سبق صحافي، مع ما تخلله ذلك من تفاصيل مغلوطة.
تعرّفنا إلى مروان حمزة بسبب فاجعة ألمّت بعائلته، وصار التحقيق بأسباب وفاته، حديث «فايسبوك» و«تويتر»، ونشرات الأخبار. لكن ماذا نعرف عن فريدا دافين؟ الأرجح أن أحداً لا يعرف شيئاً. ولعل الذين سمعوا باسمها أو قرأوا عنها، نسوا الخبر تماماً. فهو أحد الأخبار الشائعة في لبنان للأسف، وجاء بعنوان «وجدت مشنوقة في دارة مخدومها». الخبر لم يفدنا سوى باسمها، بأنّها بنغالية، وباسم «مخدومها». حتى موقع الجثّة بدا مبهماً: صحيفة «دايلي ستار» أفادت أنّ جثة فريدا وجدت معلّقة على شجرة، وموقع «المؤسسة اللبنانية للإرسال» الإلكتروني نقل أنّها وجدت في بهو منزل مخدومها.
لقي مروان وفريدا في اليوم نفسه، السادس من تشرين الثاني 2013. فريدا عاملة بنغالية فقيرة، ومروان طالب هندسة في «الجامعة الأميركية في بيروت».
تضخم خبر موت مروان وشاع وتشعّب وبنيت حوله الفرضيات والنظريات. ومن دون أيّ اكتراث لخصوصيّة عائلته، بات الجميع مهتماًّ بنشر الوعي حول الصحة النفسية ووجوب التخلّص من وصمة العار التي تلاحق المرضى… وذلك على الرغم من عدم دقّة كلّ ما أشيع عن «انتحاره» أو مرضه.
أما خبر انتحار فريدا المؤكّد والذي يستحقّ فتح نقاش عام حوله، لأنّه ليس حالة فرديّة، فطمس بشكل كامل.
في نقل خبر موت مروان، لم توفر وسائل الإعلام اللبنانية (مكتوبة ومرئية) كعادتها الفرصة لإبراز قدراتها على نقل أخبار غير دقيقة، والوصول إلى استنتاجات قبل زملاء الطالب الراحل، وعائلته. وفي وقت بدت معظم وسائل الإعلام واثقة بفرضية الانتحار، ومن أنّه «كان يعاني من أمراض نفسية وعصبية»، لم تجد نفسها معنية بنشر خبر انتحار فريدا، واكتفت بالقول انّ الحادث «يبدو انتحاراً».
متابعة قضيّة مروان لم تكتفِ بالفرضيّات وحسب، بل إنّ تجميع عناصر الخبر لم يكن دقيقاً منذ اللحظات الأولى. فأوّل الصور التي نشرت عن الحادث، تبيّن لاحقاً أنّها صور من حادث آخر. حتى أنّ مروان كان لا يزال على قيد الحياة، حين نشر خبر وفاته، أي قبيل وصول الأمن والإسعاف إلى مكان سقوطه. لاحقاً، نقلت وسائل إعلام أنّه سقط من الطابق الخامس لمبنى كلية الهندسة… لكنّ ليس في مبنى كلية الهندسة في الجامعة الأميركية خمسة طوابق! ليتبين بعدها انه سقط من الطابق السادس لمبنى سكن الطلاب «بينروز».
وكمحصّلة لما تمّ تواتره على مواقع التواصل الاجتماعي، افترضت وسائل الإعلام أنّ الشاب كان يعاني أمراضاً نفسيّة، وأنّ والده جرّاح الأعصاب، كان يتابع حالته.. ليقوم الوالد بنفي تلك الفرضيّات من أساسها، في اليوم التالي.
التغطية المضخّمة لهذه الفاجعة وحياكة القصص والافتراضات المبهمة حولها، وضعت أهل الشاب المتوفى في موقع الدفاع، من دون علمهم ولا رغبتهم على الأرجح. بعض الصحف استأصل الكلام من حلق الوالد المفجوع ليحكي عن ابنه المتفوّق الذي كان يعزف الكمان ويحبّ الكتب الفلسفية.
لماذا هذا الخرق لخصوصية العائلة ولحظات حزنها؟ وهل زادتنا استباحة خصوصية الشاب الراحل معرفةً؟ وما ايجابية تحويل فاجعة هذه العائلة الخاصة إلى مسألة عامة مفتوحة على النقاش والتداول العام؟ لا فائدة تذكر، سوى استمرار وسائل الإعلام في عادتها تحويل الخصوصيّات إلى مادّة صحافيّة.
أما فريدا، فتمّ تجاهلها وتجاهل قضيتها تماماً. لم نعرف عنها شيئاً. لا ما كانت تحب ولا ما إذا كانت تقرأ الشعر أو تحب الطبيعة. لا نعرف عمرها ولا شكلها ولا اذا ما استلم اهلها جثتها لدفنها. نعرف أنّها رقم يضاف إلى مأساة آلاف العاملات الأجنبيّات المنتحرات في لبنان، من دون أيّ نقاش فعّال حول مصيرهنّ. تلك أيضاً من عادات الإعلام اللبناني الذي يخطئ غالباً في تقدير الموقف.